هل نحتاج للنقد؟

في حياتنا الواقعية، قد نواجه أشخاصاً يميلون دائماً للانتقاد، ينتقدون كل موقف، كل سلوك، كل كلام، وحين نقول أنهم ينتقدون فهم على الأعم يميلون للتركيز على السلبيات وتضخيمها، وقد يكون مرد انتقادهم مواقف ذاتية، بعيدة عن الحياد. هؤلاء ينتقدون طريقة كلامك، ملابسك، اختياراتك للألوان، نوعية سيارتك، ينتقدون اختيارك لتخصصك الجامعي، أو وظيفتك، هم مهمتهم أن ينتقدوا الآخرين، لكنهم لا يتقبلون انتقاد الآخرين لهم، لأنهم بشر وطبيعة البشر لا تتقبل الانتقاد، خاصة ذلك النوع المتكرر والدائم.

والانتقاد حسب التعريف اللغوي، هو عَمَلِيَّةُ إِظْهارِ العُيوبِ، أو التَنْديد والتَصْريح بالعُيُوب، وهو رأي أو كَلام مُعادٍ مُوجّه إلى شَخْص ما. هؤلاء الميالون للإنتقاد دائماً، هم أشخاص بطبيعتهم يشعرون بالنقص فيغذون هذا النقص بالانتقاد الدائم، أو يشعرون بالأفضلية فينتقدون الآخرين لتعزيز تعاليهم وشعورهم بالأفضلية.

وإذا كنت ممن يتعرض للإنتقاد دائماً، أو تعرضت يوماً لانتقاد.. فكيف تتصرف؟، هل تبادل الشخص الذي انتقدك بنفس الاسلوب؟. هل تصبح شرساً مع انتقاده لتدافع عن نفسك.. يقول خبير التطوير الذاتي، ديل كارنيجي في كتابه (كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس) “بإمكان أي أحمق أن ينتقد ويدين ويشتكي لكن يلزمك التحكم في النفس”، وما عليك سوى أن لا تستجيب لإنتقاده وأن لا يخرجك عن طورك، ولا أن تغضب، بل كن هادئاً حتى لا تعطي الآخرين صورة سلبية عنك. لا تستجب بغضب لأن ذلك سيخلق ضجة ويَخِّلف مشاعر سيئة وقد يعطي للآخرين صورة سيئة عنك. حاول أن تبقى هادئا وتعامله باحترام وتفهم، وحين تشعر أن الأمر سيكون خارج السيطرة، غادر مكانك بهدوء، واستجمع أفكارك، حتى لا يؤثر الأمر عليك، على ثقتك في ذاتك، على شخصيتك.. قد يكون اسلوب الانتقاد جارحاً وغير مريح، ولكن الأسوء أن تسبب في سوء تقديرك لذاتك، فقط فكر في كلامه ربما تجد فيه بعض الإيجاب وإن كان الاسلوب جارحاً.

والانتقاد هذا يختلف عن النقد بمعناه المعرفي والأكاديمي، ولكن ثمة خلط عند البعض للمعنيين، فيظن أن كل نقد هو انتقاد بمعناه المتداول، فالنقد أو criticism  يعرفه قاموس أكسفور بأنه “التحليل والحكم على مزايا وإخفاقات العمل الأدبي أو الفني”، وهذا المعنى قريب من المعنى العربي اللغوي لكلمة نقد، فالمعاجم العربية تعرف النقد بأنه “جاء من نقد الدراهم، أي استخراج الزيف منها”، وهذان المعنيان قريبان من المعنى الاصطلاحي للنقد، فهو “دراسة الأعمال الأدبية والفنية وتفسيرُها وتحليلُها وموازنتُها بغيرها ثم الحكم عليها لبيان قيمتها ودرجتها”، ويلخص الدكتور جميل حمداوي مفهوم النقد على أنه “عملية وصفية تبدأ بعد عملية الإبداع مباشرة، وتستهدف قراءة الأثر الأدبي ومقاربته قصد تبيان مواطن الجودة و الرداءة. ويسمى الذي يمارس وظيفة مدارسة الإبداع ومحاكمته الناقد؛ لأنه يكشف ما هو صحيح وأصيل في النص الأدبي ويميزه عما هو زائف ومصطنع”، النقد ليس مختصاً فقط بالنتاج الأدبي، بل أن كل أشكال الفنون والآداب يمكن أن تكون خاضعة للنقد، وخاضعة لمحاكمة الناقد. فكما أن هناك نقد أدبي يقرأ القصيدة الشعرية والقصة، هناك نقد فني يقرأ اللوحة التشكيلية، والصورة الفوتوغرافية، والمسرحية، والفلم وغيرها من فنون، وهناك أيضاً نقد ثقافي ونقد اجتماعي.. وغيرها مما يندرج تحت مسمى النقد.

أهمية النقد:

يقول الدكتور حمداوي عن أهمية النقد بأنه “يقوم بوظيفة التقويم والتقييم ويميز مواطن الجمال ومواطن القبح، ويفرز الجودة من الرداءة، والطبع من التكلف والتصنيع والتصنع. ويعرف النقد أيضا الكتاب والمبدعين بآخر نظريات الإبداع والنقد ومدارسه وتصوراته الفلسفية والفنية والجمالية، ويجلي لهم طرائق التجديد و يبعدهم عن التقليد”، فكما يقوم المبدع بإنجاز إبداعه، يقوم الناقد بتقييم هذا الانجاز وتقويمه، ويحاكمه وفق معايير وأسس. فالنص النقدي نص مواز للمنجز الإبداعي.

ولا بد للناقد أن يمتلك بعض المواصفات المهمة التي تجعل من عمله أكثر صدقاً وعمقاً، فأولاً، لا بد أن يمتلك الذوق، نعم الذوق الذي يمكنه من تلمس مواطن الجمال والقبح في العمل الأدبي أو الفني، ولا بد للناقد أيضاً أن يملك ثقافة واطلاعا ومعرفة، أن يكون مثقفاً لغوياً وفنياً وعارفاً بالعلوم المرتبطة بالفن أو الأدب الذي ينقده من قريب أو بعيد، ثم لا بد أن يكون هذا الناقد متمرساً ويملك خبرة نقدية تؤهله لأن يكون ناقداً، ثم لا بد أن يمتلك ضميرا نقدياً بحيث يكون محايدا في قراءته وبعيداً عن أي مؤثرات خارجية، ويحكم ضميره وأخلاقياته في قراءته لأي عمل إبداعي.

النقد أنواع، والعديد من المنظرين قسموا النقد وأطلقوا على هذه الأنواع والأقسام أسماء تباينت من مدرسة نقدية لأخرى، لكن سنعتمد على تقسيم جيروم ستولنيتز للنقد في كتابه النقد الفني دراسة جمالية وفلسفية. فالنقد عنده، إما

  • نقد بواسطة القواعد :حيث يقوم الناقد بتطبيق معايير وقواعد معينة لمعرفة وقياس جودة العمل.
  • النقد السياقي: وهو الذي يبحث في السياق التاريخي والاجتماعي والنفسي للفن.
  • النقد الانطباعي: يقوم على وصف الإنطباعات والأحاسيس التي يتركها تلقي العمل الفني أو الأدبي في نفس الناقد، وهذا النوع من النقد هو الأكثر شيوعاً، لأنه متعلق بفطرية الانسان إذ يعرب عن ارتياحه أو سخطه عند تلقيه لأي عمل إبداعي.
  • النقد القصدي يهتم بمقصد المبدع من عمله، بحيث يكون التساؤل هو: ما الذي حاولالمبدع أن يفعله وكيف حقق مقصده.
  • النقد الباطن (النقد الجديد): شعاره رؤية الشيء في ذاته كما هو بالفعل حيث يركز على الطبيعة الباطنة للعمل وحدها وتجنب كل ما يقع خارج العمل .

الميل للمدح:

إذا تعرفنا على النقد، مفهومه، والحاجة إليه، وأنواعه. وعرفنا الفارق بينه وبين الانتقاد في معناه المتداول، ولكن ما يلاحظ هو أن لا الانتقاد ولا النقد يقع في دائرة رضا المبدعين، فطبيعة الانسان تميل إلى المدح، حيث أننا ننتظر دائماً التصفيق والانطباع الجيد عن ما ننتجه من عمل، ولا نميل أبداً لأي رأي سلبي تجاه ما نعمله، هذا الميل للمدح كان من أسباب القطيعة بين المبدع والناقد، فكلام كثير أثير حول هذه العلاقة التصادمية بينهما، فلا المبدع راض عن الناقد ولا الناقد راض عن المبدع، فالناقد يقرأ المنجز ويكتب نصه النقدي، فيجد المبدع نفسه مع قراءة لا تنصفه، لا تصفق له وتكيل المدح له ولمنجزه، فالشعور بالاكتمال هو ما يدفع المبدع لرفض القراءات النقدية التي لا يتسيدها المدح، رغم أن العلاقة المفترضة هي علاقة تكاملية، فالمبدع ينجز والناقد يقوم، وقراءة النقد تكون المحفز ليطور المبدع قدراته وأدواته، ويقف على اخفاقاته.

ومن بين ما يوجه للناقد من تهم في حساسية علاقته بالمبدع، أنه يغلب أهواءه الشخصية وقناعاته الأيديولوجية والسياسية في قراءته النقدية وفي حكمه على العمل الإبداعي، وهي ما تجعله يحمل هذا العمل الإبداعي ما لا يحتمله، حيث تبدو تفسيرات الناقد تسوقها قناعاته. فها هو الكاتب العالمي المعروف آرنست همنغواي يوضح علاقته بالناقد في قوله “أنه يشعر أن قدره وشأنه أكبر من زملائه الأدباء فيمنح لنفسه الحق في توجيه الأوامر لهم، وحجته في ذلك أن (الغاية تبرر الوسيلة) فهو يهدم حين يتوجب البناء، ويبث الشك حين يتطلب تعزيز الثقة بالنفس والتشجيع وبث الأمل. والنقاد الذين وصلوا لمستوى معين من البلاغة يكونون أحياناً أسوء القضاة وبإمكان الأبله منهم أن ينتقد جميع الأشياء والأشخاص، ولا يعي أن الحكمة تصنعها التجربة والذكاء يساعد على فهم الأشياء والأمور فهماً سليماً”، ومما يوجه للناقد أيضاً من قبل المبدع، أن الناقد ليس له الحق في قراءة العمل الإبداعي وهو لم يجرب معاناة المبدع، ولا يمكن أن تكون قراءته صادقة ما لم يجرب الابداع. أذكر مرة أن أحد المسرحيين ممن يبدي شراسة ضد أي رأي نقدي، أنه قال، أنه لا يحق لناقد أن يكتب عن عرض مسرحي وهو لم يعرق جبينه على خشبة مسرح، ولم يذق طعم مرارة تعب الممثلين. يشبه كلام المسرحي كلام الروائيين والشعراء والتشكيليين وغيرهم حول الناقد. فدائما ما يرددون كيف لناقد رواية أن ينقد رواية وهو لم يكتب رواية واحدة، ولم يكتب ناقد الشعر قصيدة، ولم يرسم ناقد التشكيل لوحة، ولم يخرج ناقد السينما فلماً. فهل من الضروري أن يمارس الناقد العمل الإبداعي ليكون له الحق في نقد هذا الحقل الإبداعي؟. النقد فن له مدارسه وأنواعه، وكذلك العمل الإبداعي بشتى مجالاته، والناقد ليس من الضرورة أن يكون مبدعاً ليقرأ العمل الإبداعي، فمجال دراسته تتحدد في وظيفته النقدية، في قدرته على قراءة العمل الإبداعي وفق أنواع النقد المختلفة التي ذكرناها.

يحتاج المشهد الفني والأدبي في العالم، لعلاقة تصالحية، علاقة تكاملية، وعلاقة بناء، بين المبدع والناقد، فلا يتطور الإبداع دون نقد مواز. نحتاج للنقد كما نحتاج للشعر والموسيقى والتشكيل والسينما والمسرح والرواية. النقاد ليسوا اشخاصاً هامشيين، بلا معنى، أشخاص طارؤون على المشهد، بل هم فاعلون. هم الكشاف الحقيقي لمستوى الإبداع ومستوى ما يقدمه المبدعون.