شغف الحكايات

كان يا ما كان في سالف العصر والزمان، أو في رواية أخرى كان يا ما كان، يا سادة يا كرام، وقبل الكلام، صلوا على خير الأنام .. هكذا كانت الحكايات تبدأ، منذ ألف ليلة وليلة وقبلها بكثير، مروراً بالحكواتي أو الراوي، أو حتى القصص التي نقرأها ونحن صغار، أو حتى قصص ما قبل النوم التي كانت الأمهات والجدات تحكيهن لصغارهن.

الحكايات عالم من الدهشة والخيال، في طفولتنا تعلقنا بالحكايات، بشخوص الحكايات، بأحداثها وتفاصيلها، أتذكر حين كنا صغاراُ، قبل أن يأخذنا التلفزيون إلى عالمه، كنا نتحلق حول أمي في المساءات، خاصة تلك المساءات الباردة ونحن نتدفأ بكوب حليب ساخن، وأمي الحكواتية البارعة كانت تحكي لنا حكايات من التراث الشعبي، حكايات لا تختلف عن حكايات عالمية قرأناها لاحقاً لكن بنكهة قريتنا، كنا نأخذ الحكايات إلى مناماتنا، نتخيل الأحداث والشخوص، نعيشها كما حكتها أمي. حتى بعد أن كبرت، وتزوجت، سافرت مع زوجتي وكنا حديثي زواج مع أمي لبلد ما، كان ذلك قبل اختراع الهواتف الذكية، لم يكن في السكن تلفزيون، ولا أي وسيلة تسلية. اقترحت على أمي أن تحكي لنا كل ليلة حكاية كما كانت تفعل ونحن صغاراً، أخذتنا أيضاً مع دهشة الحكايات حتى بعد أن كبرنا، أنا زوجتي كنا كطفلين نسمع الحكاية لأول مرة، رغم أننا نعرف تفاصيلها.

نحن كبشر نميل للحكايات، لذا يميل الكبار لقراءات الروايات ليس بحثاً عن قيمة أدبية، بل الأكثر عن حكاية تقرأ. والأطفال بطبيعتهم يحبون سماع القصص، فهم يبحثون عن أبطال الحكايات، ويبحثون عن النهايات السعيدة. لكننا في زمننا هذا سرقنا دهشة الحكايات من أطفالنا وجعلناهم يتعلقون بالهواتف الذكية، بمقاطع اليوتيوب التي تحتل كل وقتهم، صرنا نحاول أن نتخلص من ضجيجهم وعنادهم بوضع الهواتف في أيديهم. ولا نعلم أي خسارة نخسرها بفعلنا هذا.

الحكايات ضرورية للأطفال، ضرورية لنموهم، ويحدد موقع موم جنكشن 10 فوائد لقراءة القصص للأطفال:

أولاً، القصص تغرس القيم والفضائل في نفوس الأطفال، فمن خلال الحكايات يمكن أن نوصل رسائل أخلاقية للطفل بشكل غير مباشر، فالطفل قادر على أن يستشف رسائل الحكايات بسهولة.

ثانياً، يجعلهم على دراية بجذورهم ومعرفة مجتمعهم، فحين تختار حكاية من حكايات شعبية، أو حكاية تدر حول أشخاص يعرفهم الأطفال حتى لو كانوا من العائلة، فإنهم يتعرفون على محيطهم بشكل جيد.

ثالثاً، يرفع من القدرة اللغوية للطفل، فالقصص تساعد الطفل على تعلم كلمات جديدة، وتساعدهم على النطق الصحيح.

رابعاً، يحسن مهارات الاستماع، أثناء سرد القصص يركز الطفل على القصة دون أن يتشتت انتباهه، وهذا ما يحسن ملكة الاستماع عنده.

خامساً، يشجع الإبداع وقوة الخيال، يساعد الاستماع إلى قصة الطفل على تخيل الشخصيات والأماكن والأحداث وما إلى ذلك بدلاً من رؤيتها ععبر وسيط بصري. هذا يعزز أيضًا الإبداع، ويجعله أكثر إبداعًا وانفتاحًا على الأفكار والتفكير الحر.

سادساً، القصص أداة جيدة لشحذ الذاكرة، فباستخدام بعض الأفكار الذكية، يمكنك استخدام سرد القصص للمساعدة في زيادة ذاكرة طفلك. بمجرد أن تقرأ القصة، يمكنك أن تطلب منه تكرار القصة، أو يمكنك أن تطلب منه سردها لاحقاً. هذه طريقة ممتعة لتقوية ذاكرة الطفل وتشجيعه على التركيز.

سابعاً، القصص توسع الأفق، فمن خلالها يمكن للطفل أن يتعرف على ثقافات الشعوب، لذا من الأفضل أن تكون القصص التي تقصها لطفلك مختارة من ثقافات العالم.

ثامناً، يجعل التعلم الأكاديمي أسهل، فرواية القصص للأطفال هي نقطة انطلاق للتعلم الأكاديمي. فلو استخدمت كنشاط منتظم، يمكن أن تساعد الأطفال على الاستمتاع وفهم أفضل لما يقرؤون. هذا يساعدهم في تعلم موادهم بشكل أفضل. في بعض الأحيان ، يمكن لتدريس مواد المدرسة كقصة مثيرة للاهتمام، مثل مادة التاريخ.

تاسعاً، التواصل الأفضل، تساعد رواية القصص الأطفال في تعلم فن طرح السؤال الصحيح. كما يخبرهم كيفية إجراء محادثة مثالية ويجعلهم أكثر ثقة.

عاشراً، تساعد القصص على مواجهة المواقف الصعبة بسهولة، في كثير من الأحيان قد تنتهي المواقف الصعبة إلى ترك الأطفال يشعرون بالارتباك فيمكن أن تساعدهم قصص حول مختلف الشخصيات التي تواجه مواقف صعبة في فهم الطريقة الصحيحة لمواجهة المواقف في الحياة الواقعية.

في الماضي، كان هناك شخص متخصص في رواية الحكايات، كانوا يسمونه الحكواتي، أو في أماكم أخرى الراوي، كان يقرأ القصص في وقت لم يكن ثمة تسلية أخرى، كان يجلس على دكة مرتفعة في المقهى أو تجمعات الناس، وفي يده كتاب يقرأ منه الحكايات، ينوع بصوته ويؤدي، فيشد المستمعين لحكاياته. كان معروفاً في بلاد الشام ومصر، ولكن في كل مكان في هذا العالم شكل من أشكل رواية الحكايات. الحكواتي، شخص مثقف واعي، يعرف عن التاريخ، حين يحكي حكايته يترك الناس كل ما لديهم ليستمعوا له. يقال يا سادة يا كرام أن حكواتياً اسمه ابو محمود في دمشق، كان يحكي قصة عنترة بن شداد، كان الناس يزينون المقهى حين تصل الحكاية لزواج عنترة، يقال أن الحكواتي توقف عن حكايته بعد أن أسر الأعداء عنترة، أقفل كتابه وعاد لبيته. أحد رواد المقهى لم ينم، ظل يتقلب في منامه خوفاً على عنترة المأسور، صار يفكر في مصيره. ترك بيته بعد أن أخذ سكيناً من مطبخه وذهب مسرعاً لبيت الحكواتي، طرق بابه بقوة، خرج الحكواتي مفزوعاً من بيته مستغرباً من وجود الرجل، قال له الرجل: كيف يأتيك النوم وقد وضعت عنترة في الأسر، بحق صداقتنا قم فأخرجه وأعطيك حالا ما تحصل عليه من الجمهور في ليلتين. رضخ الحكواتي أمام إلحاح الرجل، وأدخله بيته فأكمل له الحكاية حتى خروج عنترة من الأسر وقد التقى بحبيبته عبلة بنت مالك ، خرج الرجل فرحا وشكر الحكواتي، هكذا كان الحكواتي يشد الناس لحكاياته، ليعيشوا تفاصيلها.

هناك عدد من الحكواتيين في دول عربية، لكن حكاياتهم غالباً موجهة للأطفال، فهل ما زال الأطفال يميلون للحكايات، هل ما زالت للحكايات دهشتها، هل ما زالوا بحماس الرجل الذي لم ينم حتى يعرف نهاية حكاية عنترة؟. (يمكن الاستماع لحلقة البودكاست –شغف الحكايات– لمعرفة جواب ضيفتنا الحكواتية حنين طربيه).

 قبل سنوات شاركت في ورشة تمثيل مسرحي لفتيان بين 9-15 عاماً، كان دوري في الختام أن أقدم لهم مفاتيح لقراءة النص للممثل وكيفية التعامل مع الأحداث والشخصيات. وكنت أفكر في تقديم أمثلة من حكايات وقصص عالمية معروفة على الأقل في زمننا وبقيت في وجداننا، كوننا اعتدنا على قراءتها أو مشاهدتها على التلفزيون أو سمعناها من أمهاتنا وجداتنا بطريقة سرد مختلفة. كانت المفاجأة أن ما يقارب الـ18 فتى لم يسمعوا عن سندريلا ولا حكايتها. قلت ربما هي حكاية فتاة وليسوا مهتمين بها كفتيان، ضربت أمثلة من حكايات أخرى ولا أحد منهم سمع عنها. أخبرني مدربهم أنه جرب أيضاً ولكن لم يفلح. ساعتها اكتشفت أن أطفالنا بات خيالهم محدوداً جداً ولا يملكون خيالاً جامحاً، ولا يملكون شغفاً للحكايات والقصص، فالبدائل سحبت البساط من قصص ما قبل النوم وقصص الجدات. هذه الشريحة العمرية باتت مشغولة بألعاب الفيديو وأجهزة التابلت ومقاطع الفيديو التي صارت تحصر تلقيهم في مساحة شاشة الهاتف الجوال أو الآيباد. حتى التلفزيون نفسه هجره الأطفال فلم يعد يشدهم فيه أي برامج أو قناة. فكل ما يريدونه متاح على الهواتف الذكية.

القصص والحكايات التي كنا نقرؤها في طفولتنا، أو كنا نسمعها من أمهاتنا أو جداتنا، ليست مجرد ترف لا طائل منه، بل هي وسيلة توعوية وإرشادية وتعليمية وحتى أن الله سبحانه وتعالى ضرب الأمثال والقصص في القرآن الكريم لتكون عظة للناس. لذا يشدد علماء نفس الطفل في أبحاثهم على العودة لقص الحكايات على الطفل وتعويده على الاستماع إلى قصص ما قبل النوم. حيث يقول الدكتور جي. ريد ليون لموقع بيرنتس Parents  أن “الأبحاث أكدت أن استخدام التفاعل اللفظي مع الأطفال من قبل الآباء والأمهات والمربين عبر قراءة القصص، يحقق مقداراً أكبر مما يتعلمه الطفل من أي وسيلة أخرى”، فالطفل حينما يصغي للقصص التي تروى له، فإنه يُمنح فرصة كبيرة لتحفيز ملكة الخيال لديه، فالطفل لا يتلقى فقط في هذه الحالة، بل هو شريك في القصة من خلال أسئلته واستفهاماته ومحاولته الفطرية للبحث عن سيناريوهات مختلفة للقصة التي يسمعها، والتعديل على حبكتها وشخصياتها.

شغف أطفال اليوم بألعاب الفيديو ومقاطع اليوتيوب لا يمكن أن يكون بديلاً عن قراءة القصص، فالعديد من الآباء والأمهات يوكلون عملية التعليم والإرشاد لمواقع الفيديو ليوفروا جهدهم مع أطفالهم دون أن يدركوا أنهم يخسرون طفلاً يملك خيالاً وقدرة على التعبير. عودوا للحكايات، لقصص ما قبل النوم، لقراءة الكتب لأطفالكم، ولا تتركوهم في حضرة الجوالات والأجهزة الحديثة.