التاريخ يكتبه وينتجه المنتصرون
يقال أن الزمن هو زمن الصورة، فالعديد من المنظرين أكدوا على قوة الصورة كشكل من أشكال الميديا والتوثيق، فهل نسى كيف تسببت صورة الطفلة السودانية الهزيلة التي كان يتربص بها نسر، لغضب عارم حين نشرتها جريدة نيويورك تايمز أدى لانتحار مصورها كيفن كارتر، أو صورة مقتل نجوين فان ليم، حين التقط المصور إدي أدامز، هذه الصورة خلال حرب فيتنام، وفي الصورة يطلق رئيس الشرطة الوطنية في جنوب فيتنام سجينا إلى الشارع ويطلق رصاصة على رأسه، ببرود شديد. هذه الصورة التي تصدرت الصحف، أحدثت تغييرا في الرأي العام الأمريكي الذي تكشفت عنده مستوى وحشية حرب فيتنام، أو تلك الصور التي تسربت عن مستوى التعذيب الذي تعرض له السجناء العراقيين في سجن أبو غريب. ولن ننسى تلك الصور التي تحولت لأيقونات، مثل صورة جيفارا، أو صورة غاندي.
وتبدو الصورة أكثر سيادة خاصة مع تطبيقات السوشيال ميديا التي غزت عالمنا واصبحت ترافق كل لحظاتنا، صرنا نعتمدها في تسجيل يومياتنا، طعامنا، قهوتنا وكيف نحضرها، باتت كمية الصور التي تلتقط أكبر مما نتخيل، حيث قدرت ب أكثر من 14 تريليون صورة سنوياً.. الصورة صارت هي الحاضرة في تسجيل ما يدور حول العالم، الصورة الثابتة أو المتحركة.. ولكن السؤال: هل تعني سيادة الصورة في هذا الزمن، إلغاء الحاجة للرصد الكتابي؟.
أظن أن هذا التسيد لم يلغ الحاجة للكتابة، حيث أن الكتابة أقدر على رصد التفاصيل مهما كانت قدرة الصورة على اختزال المقالات كما يقال، فالصورة وحدها لا تكفي فهي قابلة للتأويل والفهم المتباين.
عمر الكتابة طويل ولاتزال قادرة على البقاء ما دامت الحاجة إليها باقية. والدليل أن الكتب على مستوى العالم ما زالت تصدر، وكل يوم نقرأ عن إصدارات جديدة في مجالات الكتابة المختلفة ومنها كتب التاريخ، والكتب التي ترصد بالتحليل والنقد والتسجيل لتاريخنا المعاصر. فما يدور في هذا العالم الآن، أرى أن الكتابة كفيلة بتسجيله وتوثيقه وحفظه في كتب حتى وإن كانت كتباً إلكترونية، وهي الأكثر قدرة على الغوص في التفاصيل ورصدها. فرغم وجود الصورة فهي تحتاج لكتابة تعزز ما تنقله الصورة، رغم ما يشوب أي عملية رصد أياً يكن وسيطها غياب الحياد، وشك في صدق المعلومة والثقة فيها.
وفي مسألة الصدق، أظن أن الأمر سيان بين الكتابة والتسجيل البصري عبر الأفلام الوثائقية، فكما يقال فإن (التاريخ يكتبه المنتصرون). ففي الماضي كان التاريخ يكتبه المتمكن من امتلاك قوة الكلمة، وامتلاك الأقلام التي تكتب ما يملى عليها، والبسطاء عادة لا يمتلكونها ولا المهزومون، ولكن يمتلكها أصحاب النفوذ والأقوياء. وفي الحروب يمتلكها المنتصرون، فتضيع الكثير من التفاصيل الحقيقية ويستعاض عنها بخيالات المنتصر، لا بحقيقة ما حدث.
ومنذ اختراع الجوال وتسيده وهيمنته على حياتنا، باتت عملية التوثيق أكثر سهولة ومتاحة، صار وجود الجوال مزاحماً لأشكال إعلامية أخرى كالقنوات التلفزيونية، وبالتالي لم يعد المنتصرون قادرون على الهيمنة على التاريخ وكتابته حسب رؤاهم، حيث كسر احتكارهم للتسجيل.
ليست الصورة وحدها، الصور الثابتة القادرة على التأثير على كتابة التاريخ، لكن السينما كانت وما زالت شكلاً من اشكال الدعاية، وشكلاً قادراً على تنميط الأفكار، وتحويل قناعات الناس، وتكريس سياسات دول كبرى قادرة على صناعة السينما، كما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية، وقادرة أيضاً على جذب الناس سياحياً لبلد ما، كما فعلت تركيا بمسلسلاتها. وهذا الأمر يصدق أيضاً على الأفلام الوثائقية التي تمتلك قوتها الدول الكبرى، الدول صانعة الأفلام وصانعة الميديا في هذا الزمن، فمن أين يأتي الصدق إذاً؟، فحتى هذه الأفلام خاضعة لرغبات هذه الدول ولسياساتها ولأجنداتها في فرض رؤاها على العالم. فكل الأفلام الوثائقية التي أنتجت منذ بداية السينما كانت خاضعة لرأي المخرج أو الجهة المنتجة ولم يخضع أكثرها لمبدأ الحياد، حتى تلك الأفلام الوثائقية المستقلة أو تلك التي ينتجها هواة، تعبر أيضاً عن رأي أصحابها، ولا تعتمد الصدق والحياد. فمثلاً كثير مما نقله البعض في أماكن أحداث بهواتفهم الجوالة كان يعبر عن وجهة نظر أصحاب الفيديوهات، وقد تجانب الحقيقة وهذا ما حدث بعد العام 2011 في مناطق الصراعات في العالم العربي، غاب الحياد وبقيت وجهات النظر، وحتى تلك الصور والفيديوهات التي كانت تتوالي علينا في دول الربيع العربي، لم تكن خاضعة للحياد بل كانت تصور وفق تصورات وقناعات ذلك الذي التقط الصور والفيديو، ووفق ما أراد أن يوجهه من رسائل، وهو ما شكل القناعات والرأي العام، فصارت الآراء تميل هنا أو هناك وفق ما كانت توجههم لها هذه الفيدوهات أو الصور.
لست ضد التقنية الحديثة أبداً، لست ضد الكاميرا، بل أجدها نقلت عملية الرصد وسهّلتها وبسطتها أيضاً، فاختراع الكاميرا كان فتحاً حقيقياً في عملية الرصد، فمثلاً وصلتنا صور من الحروب كالحرب العالمية الأولى والثانية، قد لا تصل لكل العالم تفاصيلها لولا اختراع الكاميرا، وكذلك السينما التي نقلت لنا ما كان متوقفاً على الخيال الذي يصنعه النقل المكتوب.
ختاماً، قال الفوتوغرافي الأمريكي ادوارد ويستون مرة بأن الكاميرا ترى أكثر من العين، وقال أيضاً عبر عدسة الكاميرا الفوتوغرافية، ستتمكن من الاطلاع على عالم جديد من الضوء، عالم في معظمه مجهول وغير مستكشف، عالم ينتظر انتظار اكتشافه وكشفه.